البـدع السياسيـة الثـلاث:
· جبرية البيعة الصورية
· الإستكانة للحاكم وعدم الخروج عليه
· التوريث وولاية العهد
مقدمـــــــــة:
لا نريد أن نفرع الحديث في البدع الكلامية التي حبلت بها المصنفات القديمة في الجانب العقدي ولا نريد الدوران في فلكها أو بعث الصراعات الكلامية من جديد، لاسيما إذا كانت رهينة بزمن معين وسياقات تاريخية محددة، لكنه لابد من التذكير بمسائل عفى عنها الزمن وطويت ولكنها ما زالت ترمي بظلالها في الواقع الإسلامي الحاضر مما يقتضي من الباحث الوقوف عندها والتدقيق في جوهرها ليصل إلى ما يساهم في تقويم اعوجاج التصورات وبناء منظومات معرفية كفيلة بتزكية أنفس وتغيير عقليات واستشراف نهضة وازنة للأمة... /...
ولابد في ديدن المبادئ والتصورات والعقائد: التفريق بين الاجتهاد البشري والرؤية الذاتية للأشياء وحقائق التاريخ، وبين القطعي المنصوص عليه الذي ينحبس الفكر البشري تجاهه عند فريق من أهل الفهم، وإن رأى أناس ضرورة الاجتهاد في النص القطعي الجزئي ليتساوق مع الكليات والمقاصد الكبرى التي لم تثبت بدليل مخصوص على وجه مخصوص بل حصلت عند علماء كثر انطلاقا من مقيدات ومطلقات ومجملات ومخصصات وجزئيات خاصة في مواقع ومواضع مختلفة كما ذهب إلى ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات.
أما أن تبنى عقائد انطلاقا من اجتهادات بشرية يعوزها النص القطعي ثبوتا ودلالة فضلا عن ابتعاد سحيق عن الفهم العميق لأسرار التشريع ودقائقه وما كان عليه الرعيل الأول الذي قاد عملية التغيير العالمي... فإن الأمر يستلزم نقدها وتمحيصها ومعرفة هناتها وجوهر الخلل الذي تحمله معنى ومنهجا.
ونرى لزاما التطرق إلى التصورات السياسية التي أثرت على جماهير الأمة سلبا وتركتها خانعة رهينة سيف مصلت على رقبتها لا تستطيع الفكاك عنه أو التخلص من وطأته خاصة إذا كانت خلوا من ثقل نافذ في الاقتناع بها أو الانجرار نحو التشبت بها عقديا.... على أساس أننا سنواصل نقد العقل الإسلامي في فروع من التصورات الأخرى إن سنحت الفرصة لذلك.
أولى البدع السياسية: جبرية البيعة الصورية
يذهب العلامة ابن خلدون في الفصل التاسع و العشرين من المقدمة في معنى البيعة إلى أنها : "العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يديه تأكيداً للعهد.... فأشبه ذلك فعل البائع و المشتري، فسمي بيعةً مصدر باع. وصارت البيعة مصافحةً بالأيدي... هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع، وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ ".
ونحن نعرف أن من شروط عقد البيع وصحته التراضي بين الطرفين فضلا عن الخيار، أما الجبر والقهر والاضطرار والإكراه فإنها قواصم حقيقية تهد عقد البيع برمته، بل إنها تنسف أي تعامل بشري... ومن ثم فأساس البيعة عندنا وجوهرها حرية الشعب في اختيار الحاكم الذي تود مبايعته وتنصيبه حاكما عليها... نعم حرية حقيقية قبل الموافقة، وإلا غدت تلك البيعة صورية مباركة للاستيلاء والاستبداد وتوريث الأمة كمتاع للحاكم الآتي بدعوى إلزامها على أعناق الجماهير المستضعفة.
وإلزامية البيعة الصورية وإحكام الأمة داخل قيدها هو إمعان في إضعافها وتكريس لإذلالها وخلع لأهليتها في الاختيار، وسلخ لجوهرها وتقوية لنظام الاستبداد وإعلاء لراية القهر والظلم ونشر الفساد، وتساوق مع علماء السلاطين المتقنين لفن الإخضاع.
لاسيما وإن البيعة منذ ظهورها في النسق الإسلامي كبيعة العقبة والشجرة والنساء والسقيفة وغيرها تصرف اختياري بين حاكم ومحكوم يطبعه الحب والثقة والارتباط الوجداني والقيمي بينهما. لكنه أتى على الأمة حين من الدهر أصبحت البيعة سلاحا تقاد به الأمة قهرا من قبل الغوغاء المتسلطين والأغيلمة المتنفذين بل إنها الجودي التي ترسو عليه سفن أنظمة الاستيلاء والاستبداد وطغيان الفرد.
وقد أشار إلى هذا الملمح ابن خلدون كذلك حين وصف البيعة في صيرورتها الزمنية بقوله: "وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب، و لهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه، ورأوها قادحةً في أيمان البيعة، ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه. وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل، أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية وإلتزام الآداب من لوازم الطاعة وتوابعها، وغلب فيه حتى صارت حقيقيةً عرفيةً".
لذلك نرى التحقيق في المصطلح وحمولته الحقيقية وإبعاده عن التقاليد الكسروية التي ألهَت (الفرد) ومكنت له وجعلت الأمة خاضعة لهواه، وما أحوجنا اليوم إلى الانعتاق من الأسر، واقتلاع الحرية من أشداق المستبدين وعملائهم الذين يزينون لهم فعال الإخضاع والإركاع وما يستتبعه الاستبداد من تجويع وتفقير وتجهيل وتمييع وهيمنة على الخيرات ومقدرات الأمة كلها.
ثاني البدع السياسية: الإستكانة للحاكم وعدم الخروج عليه وإن كان ظالما
جاء في بعض كتب العقائد ما يلي: " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننـزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة " . ولتبرير هذه العقيدة السياسية ساق الشراح نصوصا سلخت من سياقها وحقيقة ما تهدف إليه، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) [النساء:59] وقوله عليه الصلاة والسلام: "من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني."
والمتأمل لهذين النصين مثلا لا يجد مباركة الخضوع لحاكم ظالم، لأن طاعته في النص تبع لطاعة الله ورسوله، فضلا على أن يكون هذا الحاكم من الأمة، أي من عمقها، نابع من اختيارها ومتناغم مع مصيرها وهادف لتحقيق سعادتها وسؤددها ومجدها، أما الحاكم المستبد الذي فرضت البيعة له قهرا وجبرا وكان مستوليا على خيرات الأمة، ظالما لا يتحرك سوى لاجتلاب مصالحه الشخصية ومآربه عصبته ولعاعات حاشيته... فإنه لا يجب طاعته أو الخضوع لقهره أو الاستجابة لنزواته لأن الأمة الحية هي التي تقول للظالم : يا ظالم .......
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودّع منهم " هو حث حقيقة على مواجهة الظالم وزجره عن ظلمه وتبيان لخطورة ترك هذا الأمر، فإنّ الناس إذا تركوا زجر الظالم في وجهه والتحذير منه فإنّ الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم، أي يقطع نصرته عنهم كما قال غير واحد من الشراح. والرسول صلى الله عليه وسلم حذّر أمته أنهم إذا وصلوا إلى حالة يهابون فيها أن يقولوا للظالم يا ظالم عندئذ تودّع الله منهم، و تخلى الله عنهم وتركهم ووكلهم إلى أنفسهم وقطع نصرته عنهم.
والتاريخ حاكم لما نراه من خطأ ما ذهب إليه المباركون لنظم الاستبداد، ألم يجابه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم (يزيدا) في معركة الحرة التي خرجوا فيها عليه حين أيقنوا إيقانا تاما بفسقه وظلمه واستكباره؟؟
في تاريخ الخلفاء للسيوطي في باب يزيد بن معاوية : " في سنة ثلاث وستين بلغ يزيدا أن أهل المدينة خرجوا عليه وخلعوه فأرسل إليهم جيشاً كثيفاً وأمرهم بقتالهم ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير فجاءوا وكانت وقعة الحرة على باب طيبة، وما أدراك ما وقعة الحرة ...
ذكرها الحسن مرة فقال: " والله ما كاد ينجو منهم أحد، قتل فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم ومن غيرهم، ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذراء، فإنا لله وإنا إليه راجعون "...
وجاء في البداية والنهاية لابن كثير (أحداث سنه 63): " ... ثم أباح مسلم بن عقبة، المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد، وقتل خيراً خلقاً من أشرافها وقرائها، وانتهب أموالاً كثيرة منها، ووقع شرُّ عظيم وفساد عريض على ما ذكره غير واحد "...
قال المدائني: " وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، يقتلون من وجدوا من الناس، ويأخذون الأموال. و عن أبي قرة قال: " قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج "...
وسئل الزهري: " كم كان القتلى يوم الحرة؟ قال: سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي، وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف. قال: وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام."
والسبب في ذلك مجابهتهم لظلم يزيد وخروجهم عليه ورفضهم ثقافة الاستكانة والخضوع وإن بذلوا في ذلك أرواحا وأعراضا ومقدسات لتتربى الأمة على تغيير نمط الحكم الفاسد وتقف رافعة رأسها عاليا في وجوه الرعاع المتسلطين.
لذلك فالذي يسوغ للأمة مهادنة الظالم ومجابهة القائمين بفتاوى التخوين والخروج وشق عصا الطاعة هم منسلكون حقيقة في ديوان جنود فرعون الذين كانوا ظالمين، لأنهم المثبتون لعرف الاستبداد والفساد والأسر والإركاع وشتى العلل القاصمة لمجد أمة كانت في القدر والأزل شاهدة على الأمم كلها شهود حرية وتمكين وعزة وكرامة وإسعاد للإنسانية كلها.
ثالث البدع السياسية: التوريث وولاية العهد
التوريث هو أن ينصب الحاكم المستولي على سدة الحكم ابنا له أو أحدا من أقاربه بعد وفاته، بحيث لا يحق للأمة اختيار الحاكم دهورا وأزمنة متطاولة بفعل التسلسل القهري النابع من توالي أبناء المستولين على ربقة الحكم. ولست أدري لم سوغ ابن خلدون هذا القهر المستدام على الأمة على الرغم من أنه مناقض لجوهر الدين والعقل والعرف الإنساني، حين يقول: " والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس و اتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، و عدل عن الفاضل إلى الفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع."
فالذي يتحدث عنه ابن خلدون رحمه الله إنما هو واقع الحال الذي يصور فيه كيف أن بني أمية غلبوا بقوة شوكتهم وامتداد عصبتهم، ولكن الحقيقة المعتبرة في هذا الشأن هي أنه ليس للواقع الظرفي أن يغير من التصور الكلي الذي يحكم الفعل الإنساني في الأرض، لذلك كانت التصورات هي المرجع الأخير في تقويم وتقييم الفعل الإنساني، ولم يثبت تاريخا أن غدا فعل شخص ما قانونا قاهرا تجتره الأجيال المتعاقبة لاسيما إذا كان ذاك الفعل مخالفا للصواب قطعا ويقينا ومضادا لمصلحة الأمة كلها، لذلك لا نوافق على تنصيب معاوية ابنه يزيدا خليفة له وملكا على الأمة قهرا واستبدادا وإفسادا دون اختيارها له، ولن نجاري تبريرات الفقهاء في هذا الشأن، لمخالفتها للنصوص القطعية وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الحرية للأمة لكي تختار حاكمها بمحض إرادتها دون تنصيب واحد إكراها، أو الوصية لآخر اضطرارا ...
فالعصمة للأمة وإجماعها، وهي لا تجتمع على باطل، ولم يُسَم هؤلاء الخلفاء راشدين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا حين اختارتهم الأمة، فكان لها آنذاك نصيب في المراقبة والمحاسبة بخلاف الذين استولوا على سدة الحكم عن طريق القتل أو الوراثة القهرية ... فإنهم ملوك، نعم ملوك وإن كان بعضهم صالحا.
إن ما يهمنا في هذا الشأن ضبط التصور فحسب، فالمُلك القهري أو تنصيب أئمة خارج سياق اختيار الأمة مخالف حقا للنصوص القرآنية ودلالاتها، إذ لا يوجد نص قرآني فيه تنصيص على عائلة تحكم الأمة، ولا يوجد فيه تنصيص واضح لخليفة سيأتي بعد محمد صلى الله عليه وسلم حاكما بعده دون اختيار الأمة له ... لنخلص أن تسويغ إخضاع الأمة للزعامات أو الأئمة أو الملوك المتسلسلين تاريخيا إخراج للشعب عن دوره الطليعي، وإمعان في قهره وإذلاله وتكسير إرادته وجعله إمعة تابعا خانعا منبطحا لتوجيهات الأسياد واستعباد الكبراء .... ولم يدر هؤلاء المسوغون أنهم يسلبون الشعب أنفس ما عنده وهي الحرية والانعتاق وتنسم فيحاء السيادة الشاملة له في الاختيار أو المراقبة أو العزل، بل إنهم لم يعرفوا أنهم يظلمون بفعلهم ذلك أمة شاهدة على الأمم الأخرى شهودا تاريخيا وشهودا من حيث معرفة حقيقة الوجود كله.
بقلـــم: رضـوان رشـدي